مع تصاعد التحول الرقمي الذي يشهده العالم، لم تعد الحوكمة مجرّد مجموعة سياسات ورقية تنظم العمل داخل المؤسسات. بل أصبحت الرقمنة عنصرًا أساسيًا في منظومة الحوكمة الحديثة، وهو ما يُعرف اليوم بـ “الحوكمة الرقمية”؛ وهي الإطار الذي يضمن التوازن بين التقنية والقرار، بين البيانات والمسؤولية، وبين السرعة والامتثال.
الهدف الأساسي من الحوكمة الرقمية هو تحسين كفاءة العمليات المؤسسية، وضمان شفافية الإجراءات، وتحقيق التكامل بين النظم والموارد. إن وجود نظام رقمي للحوكمة يعني أن المؤسسة تمتلك بنية معرفية مدعومة بالتقنيات الذكية، قادرة على تتبع الأداء، وتحديد الفجوات، واتخاذ قرارات دقيقة وفورية.
من أبرز مكونات الحوكمة الرقمية:
- إدارة البيانات المؤسسية وفق معايير موثوقة
- اعتماد حلول رقمية لدعم اتخاذ القرار (مثل لوحات التحكم dashboards)
- ضبط صلاحيات الوصول للمعلومات
- توثيق سير العمل إلكترونيًا
- مراقبة العمليات عن بعد
- ضمان الخصوصية وأمن المعلومات
لكن الأمر لا يقتصر على التكنولوجيا وحدها، بل يتطلب بنية تنظيمية متكاملة تدعم هذا التوجه. الحوكمة الرقمية تعني أيضًا توزيع الأدوار بوضوح، وإعادة تعريف المسؤوليات وفق المهام الرقمية الجديدة، مثل مسؤول البيانات (DPO)، مسؤول الأمن السيبراني، ومطوري النظم الداخلية.
تساعد الحوكمة الرقمية في تقليص الاعتماد على الإجراءات اليدوية، وتقليل الأخطاء، وتسريع الإنجاز. كما تُعتبر عنصرًا مهمًا في التزام المؤسسة بالقوانين والمعايير الدولية، خاصة فيما يتعلق بحماية البيانات (مثل GDPR) والتقارير المالية الشفافة.
في هذا السياق، أصبحت بعض الحكومات والمؤسسات العربية تتبنى نماذج أولية للحوكمة الرقمية، خصوصًا في مجالات الصحة، والتعليم، والخدمات العامة. الأمثلة مثل منصة “توكلنا” في السعودية، أو نظام “ERP” الحكومي في الإمارات، تعكس قدرة المنطقة على استيعاب وتوطين هذه الممارسات.
لكن هذا التحول يتطلب تجاوز تحديات متعددة مثل:
- ضعف البنية التحتية الرقمية
- مقاومة التغيير لدى الموظفين
- نقص الكوادر المؤهلة
- غياب السياسات الموحدة للبيانات
لذلك، فإن تبني الحوكمة الرقمية يحتاج إلى استراتيجية شاملة، تبدأ من تحديد الرؤية الرقمية، مرورًا بتحليل الوضع القائم، ثم بناء القدرات الرقمية، وتطوير نظام متكامل للمساءلة الرقمية على جميع المستويات.
في الختام، الحوكمة الرقمية ليست ترفًا إداريًا، بل أداة استراتيجية لإعادة هندسة المؤسسة بالكامل نحو مزيد من الشفافية، الكفاءة، والتكيف مع المستقبل الرقمي. وكل مؤسسة لا تبدأ رحلتها في هذا الاتجاه اليوم، ستجد نفسها عاجزة عن المنافسة غدًا